من المسلمات عند المسلم، أن الإيمان باليوم الآخر، ركن من أعظم أركان الإيمان بعد الركن الأول، وهو الإيمان بالله عز وجل، وسمي اليوم الآخر كذلك -كما يقول علماؤنا- لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به: التصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار، وقد وصف الله المتقين بقول: "وبالآخرة هم يوقنون" فهم يوقنون بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان...
وإنها لحقيقة لا يداخل المؤمن أثارة من الريب في وقوعها. وقد أقسم الله تعالى على ذلك بقوله: "الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه". فاللام في "ليجمعنكم" موطئة للقسم -وقوله جل شأنه: "لا إله إلا هو" خبر وقسم، أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، وذلك الجمع، يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله.
وهكذا يكون من أبرز سمات هذا اليوم، أنه اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، حيث يسألهم الله ويجزيهم بأعمالهم، ولا يظلم ربك أحداً.
وما من ريب في أن بعث الخلق ووقوفهم يوم العرض الأكبر أمام خالقهم ذي الجلال والإكرام، الذي يعلم كل نفسه ما كسبت، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.. ما من ريب في أن ذلك كله، من مظاهر العدل الإلهي والحكمة الربانية!! وإلا فكيف يستقيم في ميزان العقل السليم، أن يكون ما يكون من العباد في الدنيا، ثم لا يكون هناك يوم للجزاء، تقام فيه الموازين بالقسط، وتوفي كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون. إن العدل الإلهي المطلق يقتضي ذلك، وهو كائن لا محالة، كما أخبر القرآن عنه في العديد العديد من المواطن، وكما جاءت بذلك السنة المطهرة على لسان المبين عليه الصلاة والسلام.
من أجل هذا: يمكن القول بأن العقل السليم الذي لا يخضع صاحبه لسلطان الهوى، ينادي بالإيمان بيوم القيامة، لما أنه يوم الفصل، وإعطاء كل ذي حق حقه بميزان عدل لا يجور ولا يعول... حيث لا ينفع المنحرفين عن الجادة أعوان ولا سلطان، ولا يقبل الله من أهل الضلالة المحاربين لله ورسوله والمؤمنين صرفاً ولا عدلاً، ولا ينفع المعرضين عن شريعة الله -العادلين به الأوثان الحاكمين بغير ما أنزل الله -أولياؤهم من شياطين الإنس والجن، ولا يغني عنهم ما كانوا يكسبون.
والناظر في السنة المطهرة -وهي بيان الكتاب العزيز- يقع على طائفة مباركة من النصوص، لا تقتصر على الحديث عن يوم القيامة، والحساب والصراط والجنة والنار، وما إلى ذلك، ولكنها تتناول قيام الساعة، وما يكون قبلها من الإمارات، كما تتحدث عن الموت وسؤال القبر، وتدعو -ترغيباً وترهيباً- وإلى ما يجب أن يكون عليه المؤمن، حتى يكتب عند الله في عباده الصالحين الذين تدركهم رحمة الله من أول لحظة من لحظات الآخرة بعد الموت، فيجدون اليسر في سؤال الملكين، حيث يكون القبر عليهم روضة من رياض الجنة، ويوم الحساب بعد أن يبعث الله الخلائق يؤتى الواحد منهم كتابه بيمينه، ويكون -بفضل الله- ممن قال الله فيهم: "وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين".
وإنما كان ذلك في الهدي النبوي -والله أعلم- لما أن الموت هو المرحلة الأولى إلى عالم الآخرة، كالذي نقرأ في قوله تعالى: "كل نفس ذئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور". العلاقة -على هذا- وثيقة بين يوم القيامة، وبين الموت وما يكون بعده، بين يدي الساعة.
وهذا ما نجد الكلام عليه مفصلاً في هذا الكتاب الذي ينقل ما جاء في السنة النبوية عن مشاهد يوم القيامة وعظاتها، مقدماً للقارئ في ضوء تلك الحقائق صفحات زاخرة بالمشاهد والعظات التي تمليها النصوص، وهي صفحات أذيعت من بضع سنوات من إذاعة القرآن الكريم بالرياض، ولم يدخر المؤلف وسعاً في التأصيل -قدر المستطاع- واستلهام ما تنطق به تلك المشاهد من عظات لا بد أن تعمل عملها على صعيد السلوك في هذه الدار، وما تملي من وثيق العلاقة بين الدنيا والآخرة، بين العمل وتحمل المسؤولية هنا، وبين الجزاء الآوفى هناك، وحيث يبدو الإيمان الصادق بما يكون بعد الموت، ويوم القيامة، وما يمكن أن تكون عليه العاقبة هناك مقوماً جذرياً من مقومات الاستقامة والصلاح والإصلاح في الدار العاجلة، مهما تشعبت المسالك وتنوعت الميادين.